قرية SOS قدسيا – شباط 22 2018

دانيا تشق دربها الخاص نحو مستقبلٍ واعد.

خاضت دانيا ذات السابعة عشر من العمر لحظاتٍ صعبة في حياتها بدأت بانفصالها عن والدتها منذ سنٍّ صغيرةٍ جداً ومن ثم انتقالها من ريف حلب إثر تفاقم النزاعات في المنطقة تبعها رحيل والدها. وتتطلع عازمةً مع ذلك بكثير من التفاؤل لتحقيق أهدافها.

خاضت دانيا ذات السابعة عشر من العمر لحظاتٍ صعبة في حياتها بدأت بانفصالها عن والدتها منذ سنٍّ صغيرةٍ جداً ومن ثم انتقالها من ريف حلب إثر تفاقم النزاعات في المنطقة تبعها رحيل والدها. وتتطلع عازمةً مع ذلك بكثير من التفاؤل لتحقيق أهدافها.

 "لم أستطع تصديق ما سمعته في بداية الأمر. عندما كان والدي وجدتي يتحدثان عن إرسالي لقرى الأطفال SOS. لم أتخيل أدنى فكرة عن المكان المراد إرسالي إليه. أتذكر محاولتي جاهدةً كبت دموعي متظاهرةً بالنوم" هكذا عبرت دانيا المقيمة في قرية قدسيا لقرى الأطفالSOS عن بداية قصتها.

انفصل والدا دانية حيث كان يعاني والدها من حالة صحية حرجة بينما سافرت والدتها بعد ذلك لتعيش خارج البلاد تاركةً ابنتها الوحيدة والبالغة من العمر آنذاك سبعة أعوام فقط. " ما زلت أتذكر نفسي عندما كنت جالسة على الأريكة وأنا أنظر إلى أمي وهي تقترب مني  لتقبلني قبل مغادرتها على عجل. ثم هرعت إلى النافذة لوداعها للمرة الأخيرة، حقاً كانت المرة الأخيرة". تقول دانيا بنبرةٍ تعلوها الحزن. لتنتقل دانيا بعدها لتعيش مع والدها وجدتها، وبرغم معاملتها ورعايتها جيداً من قبل جدتها إلا أنها كانت وحيدةً تماماً.

نظراً لغياب والدتها والوضع الصحي والمالي السيء الذي يعاني منه والدها قررت عائلتها البيولوجية وضعها في قرى الأطفال SOS في حلب بعد إتمامها عامها الثامن. ووعدوها بأنهم سيزورونها باستمرار ولكن ذلك لم يحدث إلا نادراً، حيث عاشت بظل عائلةٍ ومنزلٍ دافئٍ وأمٍّ رائعة فأصبحت مثالها الأعلى تقتدي بها في الحياة.

أمي البديلة في قرى الأطفال كانت تتحدث معي كفتاة كبيرة وواعية على الرغم من صغر سني وهو ما زرع الثقة في نفسي

دانية
 

ومع بداية نشوب النزاع ودائرة العنف في مدينة حلب في عام 2012 خلال الأزمة السورية تم إجلاء جميع الأطفال مع أمهاتهم إلى قرى الأطفال SOS في دمشق. ظنَّ الجميع في بداية الأمر أنه إجراءٌ مؤقت لبضعة أيامٍ فقط ريثما يستتب الوضع الأمني في منطقة خان العسل التي تقع فيها قرية حلب. وواجهت خلال الأسابيع الأولى صعوبةً في التأقلم مع الوضع الجديد بيد أنها كان على دانيا وعائلتها في قرى الأطفال العيش مع عائلة أخرى من قرى الأطفال في المنزل ذاته. كان متخوفةً حيال إقامتها في مدينةٍ بعيدة جداً عن حلب التي يعيش فيها والدها وعن الحدود السورية التركية حيث تمكث والدتها، إضافةً لقلقها حول منزلها في قرية حلب لاسيما عندما وردتها أخبار الصراعات الدائرة داخل القرية بين المجموعات المسلحة والجيش.

  على مدى الأيام امتلكت دانيا وعائلتها في قرى الاطفال SOS منزلهم الخاص ما ساعدهم على التكيف مع الحياة الجديدة في قرية قدسيا. ولم تحظى منذ وصولها إلى دمشق بفرصة رؤية والديها سوى القليل من المكالمات الهاتفية التي تلقتها من والدتها في مناسبات قليلة. وتعبر دانيا عن استغرابها بمرارة قائلةً "كيف يمكن أن تتخلى أم عن ابنتها الصغيرة والوحيدة، لن أفعل شيئاً كهذا أبداً مع أطفالي في المستقبل".

دائماً ما تردك أنباءٌ عن وفاة ورحيل العديد من الأشخاص نتيجة النزاعات أو سقوط القذائف في سوريا وهذا ما يجعلكم تشعرون بالحزن والخوف. ولكن في حال سماعكم خبر وفاة والدك فيقع دويه مروعاً بشكل ليس بوسع الكلمات وصفه. في الماضي ظنت دانيا أن الذكرى الأكثر حزناً هي هجر والديها لها ما ترك في قلبها حسرةً وأسى لم تعيشه من قبل. تملكها الغضب وبكت بمرارة عنما علمت برحيل والدها بعد إصابته ضمن القصف الشديد على مدينة حلب وليس بسبب حالته الصحية السيئة. كانت أمنيتها الوحيدة آنذاك هي أن تحظى بفرصة رؤيته للمرة الأخيرة على الأقل قبل وفاته.  

صحيحٌ أن المثل يقول إن اللحظات الجميلة تساعد على تخطي الذكريات الحزينة، ولكن دفع اندلاع الاشتباكات في محيط قرية قدسيا حيث مكان إقامة دانيا مع بقية أطفال SOS لتنسى مأساة رحيل والدها قليلاً. كما ذكرها دوي الرصاص وأصوات القذائف بقرية حلب لاسيما عند إجراء اختبارات الإخلاء مع أطفال وأمهات قرى الأطفالSOS . في 27 أيلول عام 2016 وبينما كانت تتناول طعام الإفطار مع عائلتها جاء مسؤول الأمن وطلب منهم مغادرة المنزل والتوجه إلى الحافلات على الفور وبرغم خضوعها لعدة تدريباتٍ حول إجراءات الإخلاء شعرت بعجزها عن فعل أي شيء وحتى أنه استغرقها أكثر من 5 دقائق للعثور على حقيبتها التي أعدتها مسبقاً. لحسن الحظ تمكن جميع الأطفال وأمهاتهم في قرى الأطفالSOS من الانتقال إلى مكانٍ أكثر أمناً في غضون ساعة واحدة. في تلك اللحظات استرجعت دانيا لبرهة اللحظات ذاتها عندما سمعت سقوط القذائف على قرية قدسيا.

انقضى شهرٌ على تحسن الأوضاع الأمنية بعد التوصل لاتفاق وقف اطلاق النار والمصالحة بين أطراف النزاع في منطقة قدسيا مما سمح لعائلات القرية بالعودة إلى منزلهم سالمين ولم تتعرض القرية لأي ضررٍ بالغ لحسن الحظ. وتقول دانيا بفخر" كنت في قمة السعادة عندما عدنا إلى القرية وكانت قد وعدتني أمي البديلة في طريق العودة أنه سيتسنى لنا تناول الفطور على العشب عند وصولنا وهذا ما حدث بالفعل، فقد حافظت على وعدها وأعدت لنا فطوراً لم نتناول مثل طيب مذاقه حتى الآن".

انتقلت دانيا في 2017 لإحدى منازل الشباب في قرى الأطفال SOS وللمرة الأولى لم تقبل التغيير فحسب بل رغبت به بملء إرادتها أيضاً. يقع المنزل الجديد خارج القرية ما أتاح لها الفرصة للانخراط في المجتمع وتكوين صداقات جديدة، وبرغم مغادرتها القرية ما تزال تتردد إليها أسبوعياً لزيارة أمها واللعب والتحدث مع إخوتها وأخواتها الصغار في قرى الأطفال. أتمت دانيا حالياً السابعة عشر من عمرها وهي طالبةٌ مجتهدة في الصف الأخير من الثانوية وتتطلع أن تصبح محامية في المستقبل.  ومع أن بمجرد النظر إليها تستطيع رؤية قليلاً من البؤس والحزن في عينيها ولكن كلها أملاً بمستقبل أفضل، مستقبلٌ تسوده السعادة والنجاح والإرادة على تجاوز كل الأحزان وذكريات الطفولة المؤلمة.